فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَالتين والزيتون (1)}
اختلف الناس في معنى {التين والزيتون} اللذين أقسم الله تعالى بهما، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل: هو {التين} الذي يؤكل {والزيتون} الذي يعصر، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه تيناً أهدي إليه، فقال: «لو قلت إن فاكهة أنزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم، فكلوا فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس»، وقال عليه السلام: «نعم السواك سواك الزيتون ومن الشجرة المباركة هي سواكي وسواك الأنبياء قبلي»، وقال كعب وعكرمة: القسم بمنابتها، وذلك أن {التين} ينبت بدمشق، {والزيتون} ينبت بإيلياء فأقسم الله تعالى بالأرضين، وقال قتادة: هما جبلان بالشام، على أحدهما دمشق، وعلى الآخر بيت المقدس، وقال ابن زيد: {التين} مسجد دمشق، {والزيتون} مسجد إلياء، وقال ابن عباس وغيره: {التين} مسجد نوح {والزيتون} مسجد إبراهيم، وقيل {التين والزيتون وطور سينين}، ثلاثة مساجد بالشام، وقال محمد بن كعب القرظي: {التين} مسجد أصحاب الكهف، و{الزيتون} مسجد إيلياء، وأما {طور سينين}، فلم يختلف أنه جبل بالشام كلم الله عليه موسى، ومنه نودي، وفيه مسجد موسى فهو الطور، واختلف في قوله: {سينين}، فقال مجاهد وعكرمة: معناه حسن مبارك، وقيل معناه ذو الشجر.
وقرأ الجمهور بكسر السين {سينين}.
وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو رجاء بفتح السين وهي لغة بكر وتميم {سينين}.
وقرأ عمربن الخطاب وطلحة والحسن وابن مسعود: {سِيناء} بكسر السين.
وقرأ أيضاً عمر بن الخطاب: {سَيناء} بالفتح، و{البلد الأمين} مكة بلا خلاف، وقيل معنى {سينين}: المبارك، وقيل معنى {سينين}: شجر واحدتها سينية، قاله الأخفش سعيد بن مسعدة و(أمين): فعيل من الأمن بمعنى آمن أي آمن من فيه ومن دخله وما فيه من طير وحيوان، والقسم واقع على قوله تعالى: {لقد
خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} ينبغي له، ولا يدفع هذا أن يكون غيره من المخلوقات كالشمس وغيرها أحسن تقويماً منه بالمناسبة، وقال بعض العلماء بالعموم أي {الإنسان} أحسن المخلوقات تقويماً، ولم ير قوم الحنث على من حلف بالطلاق أن زوجته أحسن من الشمس، واحتجوا بهذه الآية.
واختلف الناس في تقويم الإنسان ما هو؟ فقال النخعي ومجاهد وقتادة: حسن صورته وحواسه، وقال بعضهم: هو انتصاب قامته، وقال أبو بكر بن طاهر في كتاب الثعلبي: هو عقله وإدراكه اللذان زيناه بالتمييز، وقال عكرمة: هو الشباب والقوة، والصواب أن جميع هذا هو حسن التقويم إلا قول عكرمة، إذا قوله يفضل فيه بعض الحيوان، و
{الإنسان} هنا اسم الجنس، وتقدير الكلام في تقويم {أحسن تقويم}، لأن {أحسن} صفة لابد أن تجري على موصوف، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: {ثم رددناه أسفل سافلين}، فقال عكرمة وقتادة والضحاك والنخعي: معناه بالهرم وذهول العقل وتفلت الفكر حتى يصير لا يعلم شيئاً، أنا إن المؤمن مرفوع عنه القلم، والاستثناء على هذا منقطع وهذا قول حسن وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا بل في الجنس من يعتريه ذلك وهذه عبرة منصوبة.
وقرأ ابن مسعود: {السافلين} بالألف واللام، ثم أخبر أن {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} وإن نال بعضهم هذا في الدنيا {فلهم} في الآخرة {أجر غير ممنون}، وقال الحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وأبو العالية: المعنى {رددناه أسفل سافلين} في النار على كفره ثم استثنى {الذين آمنوا} استثناء منفصلاً، فهم على هذا ليس فيهم من يرد أسفل سافلين في النار على كفره.
وفي حديث عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفف الله تعالى حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الإنابة، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غفرت ذنوبه وشفع في أهل بيته وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ مائة ولم يعمل شيئاً كتب الله له ما كان يعمل في صحته ولم تكتب عليه سيئة» وفي حديث «إن المؤمن إذا رد إلى أرذل العمر كتب الله له خير ما كان يعمله في قوته، وذلك أجر غير ممنون.»
و{ممنون} معناه: محسوب مصَرِّد يمن عليهم، قاله مجاهد وغيره، وقال كثير من المفسرين معناه مقطوع من قولهم حبل منين، أي ضعيف منقطع، واختلف في المخاطب بقوله تعالى: {فما يكذبك بعد بالدين} فقال قتادة والفراء والأخفش: هو محمد عليه السلام، قال الله له: فماذا الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبر التي ويجب النظر فيها صحة ما قلت، ويحتمل أن يكون (الدين) على هذا التأويل جميع دينه وشرعه، وقال جمهور من المتأولين: المخاطب الإنسان الكافر، أي ما الذي يجعلك كذاباً بالدين، تجعل له أنداداً، وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل، وقال منصور قلت لمجاهد: قوله تعالى: {فما يكذبك} يريد به النبي صلى الله عليه وسلم قال معاذ الله يعني به الشاك، ثم وقف تعالى جميع خلقه على أنه {أحكم الحاكمين} على جهة التقرير، وروي عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه السورة قال: «بلى وأنا على ذلك من الشاهدين». اهـ.

.قال القرطبي في الآيات السابقة:

{وَالتين والزيتون (1)} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {والتين والزيتون} قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخَعِيّ وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصِرون منه الزيت؛ قال الله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} [المؤمنون: 20].
وقال أبو ذرّ: أَهدِي للنبيّ صلى الله عليه وسلم سَلُّ تِين؛ فقال: «كلوا» وأكل منه.
ثم قال: «لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة، لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عَجَم، فكلوها فإنها تقطع البواسِير، وتنفع من النقْرِس».
وعن معاذ: أنه استاك بقضيب زيتون، وقال سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «نِعم السواك الزيتون! من الشجرة المباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحَفَر، وهي سِواكي وسواك الأنبياء مِن قبلي».
وروي عن ابن عباس أيضاً: {التين}: مسجِد نوح عليه السلام الذي بُني على الجوديّ، و{الزيتون}: مسجد بيت المقدس.
وقال الضحاك: {التين}: المسجد الحرام، و{الزيتون} المسجد الأقصى.
ابن زيد: {التين}: مسجد دمشق، و{الزيتون}: مسجد بيت المقدس.
قتادة: {التين}: الجبل الذي عليه دمشق: و{الزيتون}: الجبل الذي عليه بيت المقدس.
وقال محمد بن كعب: {التين}: مسجد أصحاب الكهف، و{الزيتون}: مسجد إيلياء.
وقال كعبُ الأحبارِ وقتادة أيضاً وعكرمة وابن زيد: {التين}: دمشق، و{الزيتون}: بيت المقدس. وهذا اختيار الطبريّ.
وقال الفراء: سمعت رجلاً من أهل الشام يقول: {التين}: جبال ما بين حُلْوان إلى هَمَذان، و{الزيتون}: جبال الشام.
وقيل: هما جبلان بالشام، يقال لهما طور زيتا وطور تِينا (بالسريانية) سميا بذلك لأنهما ينبِتانِهما.
وكذا روى أبو مكِين عن عكرمة، قال: {التين والزيتون}: جبلان بالشام.
وقال النابغة:
أَتَيْنَ التين عَنْ عُرُضٍ

وهذا اسم موضع.
ويجوز أن يكون ذلك على حذف مضاف؛ أي ومنابت التين والزيتون.
ولكن لا دليل على ذلك من ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه؛ قاله النحاس.
الثانية: أصح هذه الأقوال الأوّل؛ لأنه الحقيقة، ولا يُعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل.
وإنما أقسم الله بـ: {التين}، لأنه كان سِتر آدم في الجنة؛ لقوله تعالى: {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} [الأعراف: 22] وكان ورق التين.
وقيل: أقسم به ليبين وجه المِنة العظمى فيه؛ فإنه جميل المنظر، طيب المخبَر، نَشِر الرائحة، سهل الجَنْى، على قدر المضغة.
وقد أحسن القائل فيه:
انظر إلى التين في الغصون ضُحًى ** ممزق الجِلد مائل العُنُقِ

كأنه ربّ نِعمةٍ سُلِبت ** فعاد بعد الجديد في الخَلَق

أصغر ما في النهود أكبره ** لَكِنْ يُنَادَى عليه في الطرقِ

وقال آخر:
التين يعدِل عندي كل فاكهة ** إذا انثنى مائلاً في غصنه الزاهي

مُخَمَّش الوجه قد سالت حلاوته ** كأنه راكع مِن خشية اللَّهِ

وأقسم بالزيتون لأنه مَثَّل به إبراهيم في قوله تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35].
وهو أكثر أُدُم أهل الشام والمغرب؛ يصطبِغون به، ويستعملونه في طبيخهم، ويستصبحون به، ويداوَى به أدواء الجوف والقروح والجراحات، وفيه منافع كثيرة.
وقال عليه السلام: «كلوا الزيت وادّهِنوا به فإنه من شجرة مباركة» وقد مضى في سورة (المؤمنون) القول فيه.
الثالثة: قال ابن العربيّ ولامتنان البارئ سبحانه، وتعظيم المِنة في التين، وأنه مُقْتات مدّخر فلذلك قلنا بوجوب الزكاة فيه.
وإنما فرّ كثير من العلماء من التصريح بوجوب الزكاة فيه، تقِية جور الولاة؛ فإنهم يتحاملون في الأموال الزكاتية، فيأخذونها مغرماً، حَسْب ما أنذر به الصادق صلى الله عليه وسلم.
فكره العلماء أن يجعلوا لهم سبيلاً إلى مال آخرَ يتشططون فيه، ولكن ينبغي للمرء أن يَخْرج عن نِعمة ربه، بأداء حقه.
وقد قال الشافعي لهذه العِلة وغيرها: لا زكاة في الزيتون.
والصحيح وجوب الزكاة فيهما.
{وَطُورِ سينين (2)}
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد {وطور} قال: جبل.
{سينين} قال: مبارك (بالسريانِية).
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: {طور} جبل، و{سينين} حسن.
وقال قتادة: {سينين} هو المبارك الحسن.
وعن عكرمة قال: الجبل الذي نادى الله جل ثناؤه منه موسى عليه السلام.
وقال مقاتل والكلبِيّ: {سينين} كل جبل فيه شجر مثمِر، فهو سينين وسِيناء؛ بلغة النَّبَط.
وعن عمرو بن ميمون قال: صليت مع عمر بن الخطاب العشاء بمكة، فقرأ: {وَالتين والزيتون وَطُورِ سِيناء وَهَذَا البلد الأمين} قال: وهكذا هي في قراءة عبد الله؛ ورفع صوته تعظيماً للبيت.
وقرأ في الركعة الثانية: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل: 1] و{لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] جمع بينهما. ذكره ابن الأنباريّ.
النحاس: وفي قراءة عبد الله {سِيناء} (بكسر السين)، وفي حديث عمرو بن ميمون عن عُمر (بفتح السين).
وقال الأخفش: {طُور} جبل.
و{سينين} شجر، واحدته (سينينيَّة) وقال أبو على: {سينين} فِعلِيل، فكررت اللام التي هي نون فيه، كما كررت في زِحلِيل: للمكان الزلِق، وكِردِيدة: للقطعة من التمر، وخِنذِيد: للطويل.
ولم ينصرف {سينين} كما لم ينصرف سِيناء؛ لأنه جعل اسماً لبقعة أو أرض، ولو جعِل اسماً للمكان أو للمنزل أو اسم مذكر لانصرف؛ لأنك سميت مذكراً بمذكر.
وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام والأرض المقدّسة، وقد بارك الله فيهما؛ كما قال: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
{وَهَذَا البلد الأمين (3)}
يعني مكة، سماه أميناً لأنه آمن؛ كما قال: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] فالأمين: بمعنى الآمن؛ قاله الفرّاء وغيره.
قال الشاعر:
أَلَمْ تَعلَمِي يا أَسْمُ ويْحَكِ أَنَّنِي ** حَلَفْتُ يَمِيناً لا أَخُون أَمِينِي

يعني: آمني.
وبهذا احتج من قال: إنه أراد بالتين دمشق، وبالزيتون بيت المقدِس.
فأقسم الله بجبل دِمَشْق، لأنه مأوى عيسى عليه السلام، وبجبل بيت المقدس، لأنه مَقام الأنبياء عليه السلام، وبمكة لأنها أَثَر إبراهيم ودار محمد صلى الله عليهما وسلم.
{لَقَدْ خلقنا الإنسان فِي أحسن تقويم (4)} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {لَقَدْ خلقنا الإنسان} هذا جواب القسم، وأراد بالإنسان: الكافر.
قيل: هو الوليد بن المُغيرة.
وقيل: كَلَدَة بن أَسيد.
فعلى هذا نزلت في مُنكري البعث.
وقيل: المراد بالإنسان آدم وذريته.
{في أحسن تقويم} وهو اعتداله واستواء شبابه؛ كذا قال عامة المفسرين.
وهو أحسن ما يكون؛ لأنه خلق كل شيء مُنْكَباً على وجهه، وخلقه هو مستوياً، وله لسان ذَلِق، ويد وأصابع يقبض بها.
وقال أبو بكر بن طاهر: مزينا بالعقل، مؤدِّيا للأمر، مَهْديًّا بالتمييز، مديد القامة؛ يتناول مأكوله بيده.
ابن العربيّ: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً عالِما، قادراً مريداً متكلماً، سميعاً بصيراً، مدبراً حكيما. وهذه صفات الرب سبحانه.
وعنها عبَّر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: «إن الله خلق آدم على صُورته» يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها.
وفي رواية «على صورة الرحمن» ومن أين تكون للرحمن صورة متشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني.
وقد أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الأزديّ قال: أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن أبي على القاضي المحسِّن عن أبيه قال: كان عيسى بن موسى الهاشمي يحب زوجته حباً شديداً فقال لها يوماً: أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر؛ فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني!.
وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعاً عظيماً؛ فاستحضر الفقهاء واستفتاهم.
فقال جميع من حضر: قد طلقت؛ إلا رجلاً واحدًا من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتاً.
فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم؟ فقال له الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم {والتين والزيتون وَطُورِ سينين وهذا البلد الأمين لَقَدْ خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}.
يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه.
فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبلْ على زوجتك.
وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل: أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك.
فهذا يدلك على أنّ الإنسان أحسن خلق الله باطناً وظاهراً، جمال هيئة، وبديع تركيب: الرأس بما فيه، والصدر بما جمعه، والبطن بما حواه، والفرج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه.
ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالَم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه.
الثانية: قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين} أي إلى أرذل العمر، وهو الهَرَم بعد الشباب، والضعف بعد القوّة، حتى يصير كالصبيّ في الحال الأوّل؛ قاله الضحاك والكلبيّ وغيرهما.
وروى ابن أبي نَجيح عن مجاهد: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين} إلى النار، يعني الكافر، وقاله أبو العالية.
وقيل: لما وصفه الله بتلك الصفات الجليلة التي رُكِّب الإنسان عليها، طغى وعلا، حتى قال: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] وحين علم الله هذا من عبده، وقضاؤه صادر من عنده، رَدَّه أسفل سافلين؛ بأن جعله مملوءاً قَذَراً، مشحوناً نجاسة، وأخرجها على ظاهره إخراجاً منكرا، على وجه الاختيار تارة، وعلى وجه الغَلَبة أخرى، حتى إذا شاهد ذلك من أمره، رجع إلى قدره.
وقرأ عبد الله {أسفل السافلين}.
وقال: {أسفل سافلين} على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى جمع، ولو قال: أسفل سافلٍ جاز؛ لأن لفظ الإنسان واحد.
وتقول: هذا أفضل قائم.
ولا تقول أفضل قائمين؛ لأنك تضمر لواحد، فإن كان الواحد غير مُضْمَر له، رجع اسمه بالتوحيد والجمع؛ كقوله تعالى: {والذي جَاءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أولئك هُمُ المتقون} [الزمر: 33].
وقوله تعالى: {وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 48].
وقد قيل: إن معنى {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين} أي رددناه إلى الضلال؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 2- 3] أي إلا هؤلاء، فلا يردون إلى ذلك.
والاستثناء على قول من قال: {أسفل سافلين}: النار، متصل.
ومن قال: إنه الهرَم فهو منقطع.
قوله تعالى: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات}
فإنَّه تكتب لهم حسناتهم، وتُمْحَى عنهم سيئاتهم؛ قاله ابن عباس.
قال: وهم الذين أدركهم الكِبَر، لا يؤاخَذون بما عملوه في كِبرهم.
وروى الضحاك عنه قال: إذا كان العبد في شبابه كثير الصلاة كثير الصيام والصدقة، ثم ضَعُف عما كان يعمل في شبابه؛ أجرى الله عز وجل له ما كان يعمل في شبابه.
وفي حديث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا سافَرَ العبدُ أو مَرِض كتبَ اللَّهُ له مثل ما كان يَعمَلُ مُقِيماً صحيحاً» وقيل: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فإنه لا يَخْرف ولا يَهْرَم، ولا يذهب عقل من كان عالماً عاملاً به.
وعن عاصم الأحول عن عكرمة قال: من قرأ القرآن لم يرَدَّ إلى أرذل العمر.
وروي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «طُوْبَى لمن طال عمره وحسن عمله» وروي: إن العبد المؤمن إذا مات أمر الله مَلَكَيه أن يتعبدا على قبره إلى يوم القيامة، ويكتب له ذلك.
قوله تعالى: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} قال الضحاك: أجر بغير عمل.
وقيل مقطوع.
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين (7)}
قيل: الخطاب للكافر؛ توبيخاً وإلزاماً للحجة.
أي إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم، وأنه يردّك إلى أرذل العمر، وينقلك من حال إلى حال؛ فما يحملك على أن تُكَذِّب بالبعث والجزاء، وقد أخبرك محمد صلى الله عليه وسلم به؟ وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي اسْتيقِنْ مع ما جاءك من الله عز وجل، أنه أحكم الحاكمين.
رُوِي معناه عن قتادة.
وقال قتادة أيضاً والفرّاء: المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين.
واختاره الطبريّ.
كأنه قال: فمن يقدر على ذلك؛ أي على تكذيبك بالثواب والعقاب، بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان والدِّين والجزاء.
قال الشاعر:
دِنَّا تميماً كما كانتْ أوائلُنا ** دانَتْ أوائلَهمْ في سالف الزمنِ

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحاكمين (8)}
أي أتقن الحاكمين صنعاً في كل ما خلق.
وقيل: {بِأَحْكَمِ الحاكمين} قضاء بالحق، وعدلاً بين الخلق.
وفيه تقدير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم.
وألف الاستفهام إذا دخلت على النفي وفي الكلام معنى التوقيف صار إيجاباً؛ كما قال:
ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِب المَطايا

وقيل: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين}: منسوخة بآية السيف.
وقيل: هي ثابتة؛ لأنه لا تنافي بينهما.
وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما إذا قرأا {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} قالا: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ فيختار ذلك.
والله أعلم.
ورواه الترمذي عن أبي هريرة قال: من قرأ سورة {والتين والزيتون} فقرأ {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.
والله أعلم. اهـ.